سورة النجم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)}
قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} قال ابن عباس ومجاهد: معنى {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} والثريا إذا سقطت مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم.
وفي الشفا للقاضي عياض: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل، لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع، كقول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا *** والثريا في الأرض زين النساء
وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقال السدي: إن النجم هاهنا الزهرة لان قوما من العرب كانوا يعبدونها.
وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو الامر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت.
وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض.
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: {وَالنَّجْمِ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذا هَوى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة ابن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله.
وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله *** فما أكيل السبع بالراجع
واصل النجم الطلوع، يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط، يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضي مضيا، قال زهير:
فشج بها الاماعز وهي تهوي *** هوي الدلو أسلمها الرشاء
وقال آخر:
بينما نحن بالبلا كث فالقا *** ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذك *** راك وهنا فما استطعت مضيا
الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى *** بإجرامه من قلة النيق منهوي
ويقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى، أي أحب. قوله تعالى: {ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ} هذا جواب القسم، أي ما ضل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحق وما حاد عنه. {وَما غَوى} الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا.
وقيل: أي ما تكلم بالباطل.
وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة، قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في الشورى عند قوله: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ}. قوله تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} إليه.
وقيل: {عَنِ الْهَوى} أي بالهوى، قال أبو عبيدة، كقوله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون {عَنِ} على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل، لان بعده: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}.
الثانية: قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معدى كرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} من {ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ} قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لان {إِنْ} الخفيفة لا تكون مبدلة من {ما} الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد. قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين، سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى، وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. ثم قال: {فَاسْتَوى} يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن.
وقال الربيع بن أنس والفراء: {فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب {هُوَ}. وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون: استوى هو وفلان، وقلما يقولون استوى وفلان، وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده *** ولا يستوي والخروع المتقصف
أي لا يستوي هو والخروع، ونظير هذا: {أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا} والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الاسراء بالأفق الأعلى.
وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر.
وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى {ذُو مِرَّةٍ} في وصفه ذو منطق حسن، قاله ابن عباس.
وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن.
وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
وقال امرؤ القيس:
كنت فيهم أبدا ذا حيلة *** محكم المرة مأمون العقد
وقد قيل: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف.
وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة *** عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع، والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وحشو ثيابه أسد مرير
وقال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته *** مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا
وقال مجاهد وقتادة: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة، ومنه قول خفاف بن ندبة:
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني *** فيما ينوب من الخطوب صليب
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. {فَاسْتَوى} يعني جبريل على ما بينا، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله سعيد ابن المسيب وابن جبير.
وقيل: {فَاسْتَوى} أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لأنه كان يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمة إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة». فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: «إن هذا لعظيم» فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وانه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصع. يعني العصفور الصغير، دليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقول ثالث أن معنى {فَاسْتَوى} أي استوى القرآن في صدره. وفية على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه.
الثاني في صدر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى {فَاسْتَوى} فاعتدل يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفية على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته.
الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي. قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام {ذُو مِرَّةٍ} وعلى الثاني {شَدِيدُ الْقُوى}. وقول خامس أن معناه فارتفع. وفية على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفا.
الثاني أنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع بالمعراج. وقول سادس {فَاسْتَوى} يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في الأعراف. قوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق.
وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وافق مثل عسر وعسر. وقد مضى في حم السجدة. وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى، قال الشاعر:
أرجل لمتي واجر ذيلي *** وتحمل شكتي أفق كميت
وقيل: {وَهُوَ} أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} يعني ليلة الاسراء وهذا ضعيف، لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية، لأنه كان يتمثل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض {فَتَدَلَّى} فنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وذلك قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ}
يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل {قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} أن معناه أن الله تبارك وتعالى: {دَنا} من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَتَدَلَّى}.
وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. واصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب، قال لبيد:
فتدليت عليه قافلا *** وعلى الأرض غيابات الطفل
وذهب الفراء إلى أن الفاء في {فَتَدَلَّى} بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني، لان الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة.
وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا، لان التدلي سبب الدنو.
وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل، كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد، لان الدلال غير مرضي في صفة العبودية. قوله تعالى: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} أي {فَكانَ} محمد من ربه أو من جبريل {قابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر قوسين عربيتين. قاله ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ} قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا ***
أي ذا مقدار مسافة إصبع {أَوْ أَدْنى} أي على تقديركم، كقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ}.
وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس، أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي {قاد} وقرئ: {قيد} و{قدر}. ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {قابَ قَوْسَيْنِ} أراد قابي قوس فقلبه.
وفي الحديث: «ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد السوط.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها». وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والاشراف على الحقيقة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله، ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: {ثُمَّ دَنا} جبريل من ربه {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: «إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام».
وقيل: {أَوْ} بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى.
وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى.
وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقرب قاب قوسين.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شي، وهى لغة بعض الحجازيين.
وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا.
وقال الكسائي: قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} أراد قوسا واحدا، كقول الشاعر:
ومهمهين قذفين مرتين *** قطعته بالسمت لا بالسمتين
أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس، وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي وقسي وأقواس وقياس، وأنشد أبو عبيدة:
ووتر الأساور القياسا ***
والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب، قال الشاعر وذكر امرأة:
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس ***
قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}
تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى.
وقيل: المعنى {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ} جبريل عليه السلام {ما أَوْحى}.
وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالايمان به على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فآويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ}.
وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.


{ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)}
قوله تعالى: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} أي لم يكذب قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية.
وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس.
وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في الأنعام عند قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ}.
وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}. وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته، قاله الحسن.
وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك».
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ قال: «نور أني أراه» المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى: «رأيت نورا».
وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر واهل الشام {ما كذب} بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. ف {ما} مفعوله بغير حرف مقدر، لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون {ما} بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا، أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى، فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:
لو كنت صادقة الذي حدثتني *** لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي، أي ما كذب فؤاد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رأى. قوله تعالى: {أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} قرأ حمزة والكسائي {أفتمرونه} بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد، لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مرأة حقه أي جحده ومريته أنا، قال الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة *** لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أي جحدته.
وقال المبرد: يقال مرأة عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك، أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد {أفتمرونه} بضم التاء من غير ألف من أمريت، أي تريبونه وتشككونه. الباقون {أَفَتُمارُونَهُ} بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله، والمعنيان متداخلان، لان مجادلتهم جحود.
وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد، قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} {نَزْلَةً} مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه قال: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} قال: رآه بفؤاده مرتين، فقوله: {نَزْلَةً أُخْرى} يعود إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة وعلى هذا قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} أي ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات.
وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم.
وقال ابن مسعود: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت» ذكره المهدوي. قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} {عِنْدَ} من صلة {رَآهُ} على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم، الأول ما رواه مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، واليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات» لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء، ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب- شك يحيى- فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس: «ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها». واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول- ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها.
الثاني- أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس.
الثالث- أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك.
الرابع- لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب.
الخامس- سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء، قاله الربيع بن أنس.
السادس: لأنه تنتهي إليها أرواح المؤمنين، قاله قتادة.
السابع- لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهاجه، قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا.
الثامن- هي شجرة على رءوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق، قاله كعب أيضا. قلت: يريد- والله أعلم- أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رءوس حملة العرش، ودليله ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رءوس حملة العرش. والله أعلم.
التاسع- سميت بذلك لان من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الامة كلها، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: {عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبد الله بن الزبير ومجاهد {عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الأخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة {جَنَّةُ الْمَأْوى} قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون.
وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء، قاله ابن عباس. وهى عن يمين العرش.
وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة.
وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها.
وقيل: لان جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم. قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله.
وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسيل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما غشيها؟ قال: «فراش من ذهب».
وفي خبر آخر: «غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها».
وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى}» ذكره المهدوي والثعلبي.
وقال أنس بن مالك: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا.
وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: «يغشاها رفرف من طير خضر». وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة، أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: «فلما غشيها من أمر الله ما غشي».
وقيل: هو تعظيم الامر، كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى} ومثله: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}.
وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الامر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لان السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الايمان الذي يجمع قولا وعملا ونية، فظلها من الايمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره.
وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر ابن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم عن عبد الله بن حبشي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار» وسيل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار. قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى.
وقيل: ما جاوز ما أمر به.
وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك المقام، إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. قوله تعالى: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبد الله قال: {رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملا ما بين السماء والأرض. قال البيهقي: قوله في الحديث: «رأى رفرفا» يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له، فقد روي أنه رآه في حلة رفرف. قلت: خرجه الترمذي عن عبد الله قال: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}
قال: رأى وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملا ما بين السماء والأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {دَنا فَتَدَلَّى} أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: «فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات وسمعت كلام ربي» فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبد الرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات، وكذا في صحيح مسلم عن عبد الله قال: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم.
وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب، حكاه الماوردي.
وقيل: رأى المعراج.
وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا} و{مِنْ} يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون {الْكُبْرى} مفعولة ل {رَأى} وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرءوس الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى، كقوله تعالى: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى}.
وقيل: {الْكُبْرى} نعت لمحذوف، أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون {مِنْ} زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي رأى الكبرى من آيات ربه.


{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)}
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} لما ذكر الوحي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا مالا يعقل وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللَّاتَ لثقيف، والْعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومَناةَ لبني هلال.
وقال هشام: فكانت مَناةَ لهذيل وخزاعة، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا الْعُزَّى وهي أحدث من اللَّاتَ، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت الْعُزَّى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: «ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى» فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: «هل رأيت شيئا» قال: لا. قال: «فاعضد الثانية» فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «هل رأيت شيئا» قال: لا. قال: «فاعضد الثالثة» فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال:
يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال: «تلك الْعُزَّى ولن تعبد أبدا» وقال ابن جبير: الْعُزَّى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت كان ببطن نخلة. ومَناةَ: صنم لخزاعة.
وقيل: إن اللَّاتَ فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ الله، والْعُزَّى من العزيز، ومَناةَ من منى الله الشيء إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح: {اللات} بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج- ذكره البخاري عن ابن عباس- فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل له غنيمة يسلي منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات.
وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم.
وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال الشاعر:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها *** وكيف ينصركم من ليس ينتصر
والقراءة الصحيحة {اللَّاتَ} بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاه لذات ولاه للات وقرأ: {أفرأيتم اللاة} وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير {اللاة} بالهاء في الوقف، ومن قال: إن {اللَّاتَ} من الله وقف بالهاء أيضا.
وقيل: أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهه وهي من لاهت أي اختفت، قال الشاعر:
لاهت فما عرفت يوما بخارجة *** يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء، قال الأخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع، فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه، لان الالف واللام اللتان في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الامر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها، إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات، لان التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الالف، وإن جعلت الالف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد. قوله تعالى: {وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمى والأعشى عن أبي بكر {ومناءة} بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان.
وقيل: سمي بذلك، لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل.
الباقون بالتاء أتباعا لخط المصحف.
وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مر يمد ويقصر، قال هوبر الحارثي:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة *** على الشنء فيما بيننا ابن تميم
قوله تعالى: {الْأُخْرى} العرب لا تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رءوس الآي، كقوله: {مَآرِبُ أُخْرى} ولم يقل أخر.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.
وقيل: إنما قال: {وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن ابن هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم، والله أعلم.
وفي الآية حذف دل عليه الكلام، أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} ردا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. قوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً} يعني هذه القسمة {قِسْمَةٌ ضِيزى} أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا- عن الأخفش- أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد:
فإن تنأ عنا ننتقصك وإن تقم *** فقسمك مضئوز وأنفك راغم
وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز ضوزا، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص، قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم *** إذ يجعلون الرأس كالذنب
قوله تعالى: {قِسْمَةٌ ضِيزى} أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء، لأنه ليس في الكلام فعلى صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضيزى بالهمز.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه سمع العرب تهمز {ضِيزى}. قال غيره: وبها قرأ ابن كثير، جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة، إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى، إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى.
وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى.
وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض والأصل بوض، مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.

1 | 2 | 3 | 4